صحيفة الرأي – ٢٠١٧/١٠/٣٠
بقلم محمد رفيع
رَحلَ النَبيلُ في وَضَحِ النهارِ. فلم يُفسِحْ لَنا قَولاً على قَولهْ. هَادئاً كَيَمامْ. خَفيفاً كَغيمةِ صَيف. لَم يُثقِلْ على أحدٍ.
بِهدوءِ قِدّيسٍ، وبِخَفَرِ عَذارَى، رَحلَ مسلّم بسيسو..
بِعُمرٍ صَاخبٍ بالرجالِ، والحِبرِ، والبارودِ، والأسرارِ الكَبيرةِ، وضَجيجِ العربِ، لَوَّحَ (أبو دَرويش) لَنا جَمعياً، قبل أيامٍ، بعينية الغائرتين، صامتاً، ومَضى..
***
مِن بيسانَ، في كَبدِ الأردنِّ، إلى بيرِ السَبعِ في كَبدِ العُروبةِ والعُربان، إلى غزّةَ وبحرها الشَفيفِ، إلى القُدسِ ومطرانها، فالقاهرة فعمّانَ، فالقُدسُ ثانيةً، إلى يافا ومستوطنةِ (نيتر)، حين هَجمت قُطعانُ الضباعِ؛ ثمّ دمشقَ وبغدادَ والكويتَ وأبو ظبي.. إلى أن حَطّت رِحالُ الوَرقِ والحِبرِ والسياسة بصاحبها في عمّانَ، عَيشَاً.. فَمَثوى.
وبينها عُمرٌ امتدَّ إلى آخر العام الأوّل بعدَ التسعين..
وفيهِ، في ذلك العُمرِ، ما انحنى. ولا انثنى. ولا (انغرَى). وما بَدّلَ صَاحبُ الوَعدِ تَبديلا..
***
ومِن غَيضِ سِيرته البَاذخةِ مَا يَستحقُ أن يُقالَ هُنا، في ظِلالِ رَحيله..
– أنّ مسلّم بسيسو هو أوّل مَن نقلَ خبرَ اغتيال العصابات الصهيونية للوسيط الدولي (الكونت برنادوت)، في 17_9_1948، حين كان برفقة القائد العسكري الأردني البارز عبد الله التل في القدس. وكان حينها مراسلاً حربيّاً لوكالة (الأسّوشيتد برس AP) الأمريكية، في القدس وعمّان..
– وفيها أيضاً، أنّه حينَ وَضعت الكارثة أوزارَها، وبدأت استحقاقات ما بعد الحرب تفرض حقائقها السياسية على الأرض، في مناخ مناكفات عربية مهزومة كريهة، أنّ الملك عبد الله الأوّل حمّله مهمّة خاصّة، وسريّة، من عمّان إلى غزّة، في الشهر الأخير من العام 1948، إلى أحمد حلمي عبد الباقي، رئيس حكومة عموم فلسطين الوليدة، في الوقت الذي بدأت فيه مؤتمرات تشكيل وحدة الضفّتين. رسالةٌ بمضمون واحد، هو إلغاء فكرة حكومة عموم فلسطين وتشكيل دولة عربية واحدة تضمّ الأردن وما تبقّى من فلسطين، بما فيها غزّة ويافا وبعض مناطق في الجليل الأعلى والغربي. وكان ذلك قبل أن تبدأ مفاوضات رودس لترسيم خطوط الهدنة. ولكن..!؟
– وفي سيرته الإنسانية، أنّه في العام 1996، وحين توفّي السياسي العربيّ السوري الكَبير أكرم الحوراني (1911 _ 1996)، لاجئاً عن وطنه السوري في عمّان، قَرّر صديقه مسلم بسيسو دفنه في قبره الذي خصّصه لنفسه عند الرحيل..!؟ ودُفن الحوراني في قبر في (شَفا بدران؛ شمال عمّان)، وذلك بعد أن وفّر للحوراني خلال سنوات كل الظروف لكتابة مذكّراته التي جاءت في أربعة مجلّدات ضخمة..!؟ وها هو أبو درويش يرحل اليوم، ويُدفن في قبرٍ في (سَحاب؛ جنوب شرق عمّان)، فيَا لمقادير الرجالِ في دُنيا العَرب..!؟ وَيَا لَهذه الأعمار ما أدهشَها، ويَا لبعض نفوس الرجال ما أكبرها. فَقَبرٌ بِقَبرٍ يَا (أبَا دَرويش)؛
وطُوبى لأصحابِ النفوسِ الكبيرةِ مَا أوجعَ رَحليهم..!؟
– وفي ذَاكرةِ (مسلّم بسيسو).. فقد رحلَ الرجلُ قبل أن يُكملَ كتابةَ مذكراته، ووحدي مَن يتحمّل مسؤولية ذلك..!؟ فقد بدأتُها معه في صَيف العام 2006، وعلى مدى أشهر طويلة، قُمنا بتسجيلها على أشرطة فيديو، وقد أنجزناها كاملة على مستوى التسجيل. أما كتابةً، فقد أكملنا نحو رُبعَها فقط، وتعذّرت المواصلةُ بسبب ظروفه الصحيّة، وتأجّل الأمر والمهمّةُ بيننا إلى حينٍ آخرَ، لم يأتِ..
وهذا وعدٌ يا (أبا درويش) أن أكتب تلك الذاكرة، الزاخرة بالنضال والخير والعُمران، بعد أن أودعتني كلّ أثاث ومفردات وتفاصيلها، الزاخرة والباذخة، إن أمدّ اللهُ في هذا العُمر..
لكَ الخلودُ.. يا صَاحبَ السَجايا الباذخة..
لَكَ وَاسعُ الرحمةِ وفَسيحُ الغُفرانِ.. ولنفسكَ السكونُ.. ولروحكَ الراحةُ الأبديةُ.. ولذكراكَ وتاريخكَ المجيدِ خُلودٌ إلى الأبد..
نَم هانئاً، أيّها السنديانُ الذي مَا هَوَى إلا ليَنغرسَ في الخلودِ وفي الناسِ من جديد.. فقد عِشتَ عَزيزاً كَريماً نَبيلاً.. مُثخناً بالناسِ والفقراءِ والأمّةِ.. وبفلسطين..
fafieh@yahoo.com